Суббота 4 Май 2024 | 1433 х.   RSS | PDA | أرشيف الباب
 




 

الاسلام والمسيحية في التاريخ الروسي  

13.11.2008 13:36

بقلم الدكتور عمر محمود شعار

تهدف هذه الدراسة نحو تدقيق بعض الحقائق التاريخية الغير واضحة لدى بعض المهتمين بالشؤون الروسية ، الذين يخلطون بين عملية اعلان الاسلام الديانة الرسمية لإمارة (( بلغار)) على أثر رحلة أحمد بن فضلان إلى حوض نهر الفولغا في بداية القرن العاشر الميلادي وعملية اعلان المسيحية الديانة الرسمية لإمارة (( كييف )) الروسية التي جرت في نهاية القرن المذكور

عدا ذلك ، فإن تسمية (( بلغار)) أو (( بولغار)) تضفي على هذه المسألة ((تشويشا )) اضافيا لدى هؤلاء المهتمين ، فهم يخلطون بين إمارة (( بلغار)) الغربية التي كانت تقع في منطقة البلقان و اعتنقت المسيحية رسميا في عام 863 م وعلى أساسها تشكلت دولة بلغاريا الراهنة وبين إمارة ((بلغار)) الشرقية – الشمالية التي كانت تقع في حوض نهر الفولغا واعتنقت الاسلام رسميا في القرن العاشر الميلادي على أثر زيارة أحمد بن فضلان إلى هذه المنطقة التي تقع عليها حاليا جمهورية تتارستان الحالية وعاصمتها قازان . ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن إمارتي ((بلغار)) الغربية والشرقية الشمالية تشكلتا بنتيجة تفكك دولة (( بلغار )) الكبرى التي كانت تمد حدودها من سواحل بحر قزوين وحوض نهر الفولغا في الشرق إلى منطقة البلقان في الغرب وذلك على أثر زحف قبائل الخزر من أواسط جنوب أسيا إلى منطقة جنوب شرق أوروبا ( القفقاس والمناطق المتاخمة المحيطة بالبحر الأسود ) في النصف الأول من القرن السابع الميلادي ، ويوجد إجماع بين علماء الانتروبولوجيا على أن قبائل البلغار والخزر تنتمي عرقيا إلى الشعوب الناطقة باللغة التركية

تاريخيا ، انتشر الاسلام في المناطق الداخلة حاليا في أراضي روسيا الاتحادية قبل المسيحية عبرطريقين، الأول عن طريق القفقاس وذلك في عصر الفتوحات الاسلامية حيث خاض العرب المسلمون منذ منتصف القرن السابع وحتى منتصف القرن الثامن الميلاديين حروب عنيفة ومتواصلة مع خاقانية الخزر انتشر الاسلام خلالها في هذه المنطقة وحول هذه الأحداث نجد معلومات وافرة لدى المسعودي والطبري وابن الأثيروغيرهم من مشاهير المؤرخين العرب . والثاني عن طريق خطوط التجارة الشمالية الممتدة من أواسط اسيا إلى أوروبا الشرقية وكانت مدينة اتيل عاصمة الخاقانية الخزرية التي كانت عند مصب نهر الفولغا في بحر قزوين إحدى محطاتها التجارية الرئيسية بالإضافة إلى إمارة البلغار الشرقية الشمالية التي كانت تقع في أواسط حوض نهر الفولغا ، الذي كان يسمى في ذلك الوقت نهر (( اتيل )) وكان يشكل بحد ذاته ممرا مائيا تجاريا أساسيا في العلاقة بين الشرق الأسيوي والغرب الأوروبي ، فعند مصبه في بحر قزوين كانت تحط المراكب النهرية التجارية الواردة من أقاصي شمال غرب أوروبا وتعود محملة بالبضائع الشرقية ، ومع ازدهار الحضارة العربية الاسلامية انتشر الاسلام في وسط الشعوب القاطنة على سواحل حوض نهر الفولغا (( اتيل )) وتؤكد على ذلك التنقيبات الأثرية ، حيث تم العثور في أغلب المناطق المطلة على حوضه وفي حوض بحر البلطيق على أعداد كبيرة من الكنوزمن النقود العربية الاسلامية تعود إلى القرون التاسع والعاشر والحادي عشر الميلادية . ويسود اعتقاد خاطئ لدى البعض مفاده أن الاسلام انتشر في حوض نهر الفولغا على يد أحمد بن فضلان في بداية القرن العاشر الميلادي ، بينما تؤكد الدراسات التاريخية والتنقيبات الأثرية على الاسلام انتشر في هذه المنطقة قبل ذلك بكثير

في منتصف القرن السابع الميلادي وعلى أثر تفكك دولة البلغار التركية الكبرى ، التي امتدت حدودها من السواحل الغربية لبحر قزوين إلى منطقة البلقان ، هاجرت عدة قبائل بلغارية نحو المنطقة الشمالية –الشرقية وتمركزت في الحوض الأوسط لنهر الفولغا ( إتل ) . وهذه الحقيقة التاريخية تؤكدها التنقيبات الأثرية التي جرت في المنطقة ، حيث أسست هذه القبائل في هذه المنطقة مملكة البلغار يترأسها خان ، وهو منصب أدنى من منصب الخاقان (الامبراطور) ، و كانت مملكة البلغار تابعة لخاقانية الخزر . في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي بدأ الإسلام بالإنتشار في منطقة شرق أوروبا ، فقد كانت القوافل التجارية تصل إليها من آسيا الوسطى التي توطد فيها الإسلام في تلك الفترة ، فهذه المنطقة كانت مرتبطة منذ أقدم العصور بأحد خطوط طريق الحرير الذي ينطلق من أقاصي آسيا ويمر عبر آسيا الوسطى باتجاه السواحل الشرقية – الشمالية لبحر قزوين ومنها الى حوض نهر الفولغا ، حيث كانت تتوقف القوافل التجارية في مملكة البلغار، وفيها كانت تحمل البضائع على المراكب النهرية الصقلبية والروسية في مجرى نهر الفولغا بالاتجاه الشمال – الغربي لتصل الى بحر البلطيق عبر مجرى نهر الدفينا الغربي ومن بحر البلطيق إلى عموم البلاد الاسكندنافية وبالعكس .فقد كانت مملكة البٌلغار محطة أساسية للبضائع الواردة من أقاصي المناطق الأوربية الشمالية – الغربية ، ومن البلغار الى الجنوب عبر مجرى نهر الفولغا باتجاه مدينة إتل عاصمة الخاقانية الخزرية عند مصب نهرالفولغا في بحر قزوين ، والى الشرق باتجاه آسيا الوسطى عبر الخط الشمالي لطريق الحرير . ولذلك كانت مملكة البلغار على تماس واحتكاك دائم مع الصقالبة ( السلاف ) والروس ، وتشير المصادر التاريخية بأنه إلى جانب التجارة كان الشعب البلغاري يمارس زراعة الحبوب وتربية الحيوانات . وتؤكد التنقيبات الأثرية بأن تركيب سكان مملكة البلغار كان مختلطا ويتألف من البلغار (الترك) والصقالبة (السلاف) والأغوريين والفلنديين وتشير أيضا إلى أن الإسلام في بداية القرن العاشر الميلادي انتشر بشكل واسع بين سكان إمارة بلغار 

مع توسع رقعة الخلافة العربية الإسلامية في القرن الثامن الميلادي ازدهرت كافة أنواع العلوم ومن ضمنها الجغرافية والتاريخية، حيث اهتم الجغرافيون والمؤرخون العرب المسلمون بحضارات الشعوب المنضوية تحت لواء الخلافة العربية الإسلامية. ضمن هذا السياق تعتبر ((رسالة أحمد بن فضلان )) من الوثائق التاريخية المكتوبة النادرة المتعلقة بتاريخ وحضارات الشعوب القاطنة في حوض نهر الفولغا ( اتيل ) ، البلغار والصقالبة ( السلاف ) والأغوريين والفلنديين والروس، التي لم يكن لدى أغلبها في تلك المرحلة لغة مكتوبة وكانت تعيش في ظلمات الجهل والوثنية والتخلف الاجتماعي 

بالنسبة للمعلومات التاريخية التي تحتويها رسالة (( رسالة أحمد بن فضلان )) فهي معروفة و أصدرتها العديد من دور النشر العربية ويمكن التعرف عليها في(( معجم البلدان )) لياقوت الحموي ، ولكن بالنسبة لموضوعنا ففي عام( 921 م الموافق 309 هجري) بعث خان البلغار أيدار (ألميش ) رسالة إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله ، عبر كبيرالصقالبة ( الجند العبيد ) في حاشية الخليفة في بغداد واسمه نذير الخ?رمي ، أعلمه فيها عن رغبته باعتناق الإسلام وطلب منه أن يرسل إلى بلغار من يعلمهم أصول الدين الإسلامي ، واستجاب الخليفة لطلب خان البلغار وأوفد بعثة برئاسة أحمد بن فضلان وبعضوية سوسن الرسي وتيكين التركي وبارص الصقلبي وكلهم يعملون في ديوان الخليفة وباستثناء إبن فضلان فإن بقية أعضاء البعثة ينتمون من حيث الأصل إلى منطقة حوض الفولغا ، وأخذ الترك والصقالبة على عاتقهم مهمة مرافقة البعثة والحفاظ على أمنها . وقد سجل أحمد بن فضلان كافة تفاصيل رحلته في كتاب أطلق عليه تسمية ((رسالة أحمد بن فضلان رسول المقتدر بالله إلى ملك الصقالبة )) ، ولكن ليس واضحا السبب الذي دعاه لإطلاق تسمية (( ملك الصقالبة )) على خان البلغار، يبدو أن سبب ذلك ينحصر في إختلاط البلغار( الترك ) مع الصقالبة (السلاف ) في مملكة البلغار ، ويوجد أيضا سبب آخر ينحصر في أن بعض الجغرافيين العرب المسلمين كانوا يطلقون على المكان الذي هاجرت إليه بعض القبائل البلغارية وأسسوا فيه دولتهم تسمية ((بلاد الصقالبة )) . فقد أثبتت الدراسات التاريخية الحديثة المعتمدة على التنقيبات الأثرية أن البلغار ينتمون إلى مجموعة الشعوب التركية وأن الصقالبة ينتمون إلى مجموعة الشعوب السلافية ، وهذه الحقيقة تتطابق مع ما ورد في أغلب مؤلفات المؤرخين والجغرافيين العرب المسلمين ، الذين ميزوا بشكل واضح بين البلغار والصقالبة ، وهذا الأمر نشاهده عند ياقوت الحموي الذي أورد في معجمه الجزء الوارد في رسالة إبن فضلان المتعلق بمهمته الأساسية التي أوفد لأجلها إلى ملك( الصقالبة) تحت مصطلح بلغار وليس تحت مصطلح صقلب ، ولكن ياقوت الحموي يطلق أيضا على مكان تواجد دولة البلغار تسمية (( بلاد الصقالبة)) ويقصد بذلك البلاد الشمالية 

بلا شك ساهمت عملية اعتناق الإسلام في تقوية المملكة البلغارية في حوض نهر الفولغا وتعزيز مكانتها في منطقة شرق أوربا ، فعلى أثر زيارة إبن فضلان قام ابن ملك البلغار بزيارة إلى بغداد وحج إلى مكة المكرمة ، وتعززت علاقات مملكة البلغار مع الخلافة العباسية وبشكل خاص العلاقات التجارية والثقافية مع مراكز الحضارة الإسلامية في آسيا الوسطى وبالدرجة الأولى مع خوارزم، مما ساهم في تقوية موقع مملكة البلغار سياسيا واقتصاديا في شرق أوربا 

رغم حالة الوهن السياسي التي كانت تعاني منها الخلافة العباسية في تلك المرحلة ، إلا أنه يوجد إجماع بين المؤرخين بأن القرنين الرابع والخامس الهجريين يعتبران تاريخيا مرحلة العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية والتي كانت تعتبر في تلك المرحلة أرقى حضارة إنسانية في القرون الوسطى . وفي تلك المرحلة أصبحت المدن الإسلامية في آسيا الوسطى بخارى وطشقند وسمرقند وخوارزم وغيرها مراكز اشعاع حضارية عالمية ، وقد انعكست مؤثراتها الحضارية على مملكة البلغار الإسلامية في حوض الفولغا ، التي كانت تعيش قبل اعتناقها الإسلام حالة شبه همجية .فعلى المستوى الداخلي تم إعادة تنظيم البنية السياسية للدولة البلغارية وفق الأنظمة التي كانت سائدة في الخلافة العباسية وإليها انتقلت المنجزات الثقافية والتكنولوجية العلمية الإسلامية ، ففي القرن العاشر الميلادي ازدهرت الحياة التجارية والزراعية والحرفية والثقافية في مدينة بلغار العاصمة ومدينة سوفار وتحولتا مع المدن البلغارية الأخرى إلى مدن إسلامية ، حيث شيد فيها العديد من الجوامع وعشرات المساجد . وأكد المؤرخ الروسي المشهور سولوفيوف سيرغيي ميخائيلوفيتش أنه : (( هنا منذ القدم كان يعيش شعب البلغار التجاري والصناعي ، منذ القدم وقبل أن يبدأ الروسي السلافي بتشييد الكنائس المسيحية على ضفاف نهر أوكا ، وقبل أن يتوسع إلى هذه المناطق …كان البلغاري يستمع للقرآن على ضفاف نهري الفولغا وكاما )) 

في القرن العاشر الميلادي كانت دولة البلغار مركزا للإتصال مع الشرق ، حيث استطاعت أن توفر الأمن الكامل للقوافل التجارية المتوجهة نحو الشرق الآسيوي ، وتحولت مملكة بلغار إلى مركزا تجاريا مهما بين الشرق والغرب ، وتؤكد كافة المصادر التاريخية والتنقيبات الأثرية على أن مملكة بلغار الإسلامية كانت في القرن العاشر الميلادي مركزا حضاريا إسلاميا متقدما في منطقة شرق أوربا ، وبحكم موقعها الجغرافي والتجاري المتميز في حوض نهر الفولغا كانت على تماس مباشر مع بعض قبائل الصقالبة ( السلاف ) التي رحلت إلى حوض الفولغا في القرن الثامن الميلادي واندمج جزء منها مع البلغار واعتنقت الإسلام ، وكانت أيضا على احتكاك مباشر مع القبائل الفيلندية – الاوغورية الشمالية ومع إمارة كييف الروسية . لقد استمرت مملكة البلغار في الوجود حتى منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ، عندما تقوضت على أيدي التتار و المغول ودخلت في عداد أوردا الذهبية إلى جانب الإمارات الروسية 

أما عملية اعتناق المسيحية رسميا في إمارة (( كييف )) الروسية فقد جرت في نهاية القرن العاشر الميلادي ، حيث تشير المصادر التاريخية الروسية إلى أنه في عام 988م وردت إلى كييف سفارة من ملكة البلغار الإسلامية، حيث عرض المسلمون على الروس الوثنيين اعتناق الديانة الإسلامية، وتؤكد (( رواية الأعوام السالفة )) بأن أصول الديانة الإسلامية راقت للأمير فلاديمير وبالأخص السماح له بأربع زوجات، وأنه كاد أن يعتنق الإسلام لولا موضوع واحد وهو تحريم الخمر، وأن الأمير استدعى زعيم اليهود في كييف واستفسر منه عن ديانتهم وسأله فلاديمير عن مكان تواجد دولتهم ، فأجابه بأنه كانت لهم دولة في ((أورشليم)) ولكن الرب غضب عليهم وحطم دولتهم ، فقال له فلاديمير وأنتم تريدون بأن تحل علينا اللعنة الربانية ، وعند ذلك قرر فلاديمير اعتناق الديانة المسيحية التي تحلل الخمر رغم تحريمها تعدد الزوجات ، وجعلها الديانة الرسمية للدولة الروسية

بلا شك تتضمن هذه الحكاية الاسطورية التي يوردها القسيس ناستور مؤلف الوثيقة التاريخية الروسية ((رواية الأعوام السالفة )) بعض عناصر الحقيقة. ولكن يبدو أيضا أن موضوع الخمر لم يكن السبب الوحيد في عدم اعتناق الدولة الروسية للإسلام ، ففي سؤال الأمير فلاديمير لممثل الديانة اليهودية حول مكان تواجد دولتهم نتلمس السبب الحقيقي لاعتناق الروس للديانة المسيحية . فالروس كانوا يمارسون التجارة النهرية والبحرية وكان لديهم أقوى اسطول بحري في أوربا الشرقية ، وبلا شك كانوا على معرفة جيدة بالأوضاع الجيوبوليتيكية في المنطقة والاتجاهات الدينية السائدة فيها ، وتشير الوثائق التاريخية إلى أن الأمير فلاديمير أرسل عدة سفارات إلى مختلف المراكز الحضارية في أوربا وآسيا ، وواحدة منها وصلت إلى خوارزم في عام 987 م . ففي تلك المرحلة ورغم ازدهار العلوم الحضارية العربية الإسلامية ، إلا أن العالم الإسلامي كان يعيش مرحلة التفكك السياسي وصراع الطوائف والملل ، ودولة البلغار الإسلامية المتواجدة في حوض نهر الفولغا لم تتحول ، حتى في قمة ازدهارها في نهاية القرن العاشر الميلادي ، إلى كيان سياسي ضخم واسع الهيمنة والنفوذ في أوربا الشرقية . ورغم انتشار الإسلام بشكل واسع وسط شعوب وقبائل المنطقة وفي داخل الدولة الروسية وعاصمتها كييف ، إلا أن النخبة الحاكمة الروسية الفارياغية التي كانت تعيش على التجارة البحرية كانت تبحث عن كيان سياسي ضخم تعتمد عليه سياسيا واقتصاديا وبالأخص في تصريف البضائع وعقد الصفقات التجارية ، وهذا العامل كان بلا شك يتوفر في الدولة البيزنطية ككيان سياسي واقتصادي، حيث كانت القسطنطينية واحدة من المراكز التجارية الأساسية في حوض البحر الأبيض المتوسط وعلاقاتها التجارية واسعة بين الشرق الأوسط وأوربا وشمال أفريقيا ، والروس كانت لهم علاقات تجارية تاريخية مع القسطنطينية والتي كانوا يسمونها (( مدينة القيصر . (( وبدورها كنت الدولة البيزنطية تسعى حثيثا لكسب ود الروس والتحالف معهم، لاتقاء شرهم من ناحية ، ولاستخدامهم في إضعاف أخصام وأعداء الدولة البيزنطية في أوربا وآسيا ، وخير مثال على ذلك علاقة القسطنطينية مع الأمير سفياتوسلاف والد فلاديمير الذي استخدمته في تصفية خاقانية الخزر منافستها على النفوذ في منطقة جنوب شرق أوربا . وبلا شك لعبت العلاقات التجارية والبعثات التبشيرية التي كانت ترسلها القسطنطينية إلى المنطقة دورا كبيرا في انتشار المسيحية وسط شعوب المنطقة ومن ضمنهم الروس ، وفي النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي استطاعت الكنيسة المسيحية أن تستقطب رموز مهمة في النخبة الروسية الحاكمة في كييف ومن ضمنهم الأميرة اولغا وحفيدها الأمير ياروبولك . وفي عام 863 م اعتنقت المملكة البلغارية الغربية المسيحية رسميا بالإضافة إلى الدويلات السلافية في منطقة البلقان ، وكانت علاقات الدولة الروسية القديمة مع هذه المنطقة متينة للغاية وبالأخص في فترة حكم الأمير سفياتوسلاف الذي أقام لفترة طويلة في منطقة حوض نهر الدانوب ، وبلا شك تأثر الروس بعملية انتشار المسيحية في منطقة البلقان والتي ترافقت تاريخيا مع عملية ابتكار الكتابة السلافية من قبل الأسقفين كيريل وموفدي في منتصف القرن التاسع الميلادي ، وفي منتصف القرن العاشر الميلادي تراكمت في بلغاريا الغربية كمية كبيرة من الأدبيات المسيحية المكتوبة باللغة السلافية وانتشرت تدريجيا في وسط القبائل السلافية الشرقية القاطنة في الدولة الروسية. وفي النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي اعتنقت الممالك الألمانية رسميا الديانة المسيحية وتبعتها الدولة البولونية وبقية الدويلات السلافية الغربية ، ورغم تبعية هذه الدول للكنيسة البابوية الغربية في روما إلا أنه في تلك الفترة لم يكن قد جرى الإنقسام بين الفاتيكان والقسطنطينية ، ويبدو أن وضعية خضوع الكنيسة بالكامل لإرادة الإمبراطورالبيزنطي كانت تتناسب وتنسجم مع توجهات النخبة الروسية الحاكمة في كييف ولذلك اختارت الإرتباط بالكنيسة الشرقية البيزنطية والتي انقسمت نهائيا عن الكنيسة البابوية الغربية على أثر الخلاف حول مشروع الحملات الصليبية نحو الشرق في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي

في عام 987 م جرت في الدولة البيزنطية حرب داخلية ساهمت بشكل مباشر في عملية اعتناق الروس للديانة المسيحية . ففي هذا العام جرى عصيان عسكري في الجيش البيزنطي بقيادة الجنرال فارد فوك وأعلن نفسه إمبراطورا، وفي بداية عام 988 م زحفت قواته نحو القسطنطينية. في تلك الفترة كان يحكم الدولة البيزنطية إمبراطوران شقيقان، حيث توجه أحدهما الإمبراطور فاسيلي الثاني بطلب المساعدة من الأمير الروسي فلاديمير ، الذي استجاب بسرعة وأرسل ستة آلاف مقاتل من الروس ، الذين لعبوا دورا أساسيا في قمع حركة العصيان ، وفيما بعد تكررت هذه الحالة أكثر من مرة ، وأصبحت القوات الروسية القوة العسكرية الضاربة للدولة البيزنطية . وعلى أثر قمع حركة العصيان توطدت علاقات التحالف بين الدولتين الروسية والبيزنطية تجسدت في زواج الأمير فلاديمير على الأميرة آنا شقيقة الامبراطور البيزنطي في عام 988 م ، حيث جرت مراسم عقد الزواج وفق الأصول المسيحية وسبقتها اعتناق فلاديمير المسيحية . ومن ثم أعلن فلاديمير المسيحية الديانة الرسمية للدولة الروسية ، واصدر أوامره إلى جنده لتحطيم كافة تماثيل الألهات الوثنية وحرق معابدها وألزم أهالي كييف باعتناق المسيحية بشكل قسري وجماعي . والمسلمون الذين رفضوا اعتناق المسيحية نزحوا إلى قبائل البيجناك والبولوفيتسي (وهي قبائل القفجاق والكومان التركية والتي كانت تقطن في السهول المطلة على سواحل البحر الأسود والسهول المحيطة بجبال القفقاس وأطلقت عليها قبائل الصقالبة السلافية تسمية البولوفيتسيين والتي تعني باللغة السلافية سكان السهوب ) ، أما الجالية اليهودية فقد هربت إلى بولونيا واستوطنت في مدنها ومراكزها التجارية 

لقد تم تأسيس الكنيسة المسيحية الروسية وفق نموذج الكنيسة الإغريقية البيزنطية ، و كانت في البداية إسقفية يترأسها إسقف ، وتحولت فيما بعد إلى مطرانية يترأسها مطران، وكان الأساقفة والمطارنة بيزنطيين ويتم تعيينهم من قبل بطريرك القسطنطينية شخصيا . وكانت علاقة الكنيسة المسيحية الارثوذكسية البيزنطية مع الدولة مبنية على الولاء الكامل لرأس الدولة ( الأمير أو القيصرأو الإمبراطور) وتتلخص بشكل مكثف في شعارها الداعي إلى الولاء للقيصر والعقيدة والوطن . وهذه الوضعية كانت تتناسب مع نزعات النخبة الحاكمة في الدولة الروسية ، وهناك إجماع بين المؤرخين على أن الكنيسة الارثوذكسية البيزنطية ولاحقا الروسية لعبت دورا كبيرا في توطيد دعائم الحكم القيصري المطلق في الدولة الروسية 

المراجع : 

1. ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، بيروت دار الكتب العلمية 1990م ج1، ص 576- 578 
2. سولوفيوف .س.م . الأعمال الكاملة ، الكتاب الثالث ، تاريخ روسيا منذ أقدم العصور ، ج5-6 ، موسكو 1989 
3. تاغيروف ي . ر ، تاريخ الدولة الوطنية للشعب التتاري وتتارستان ، قازان 2000 م 
4. تاريخ روسيا في ثلاثة أجزاء إصدار معهد تاريخ روسيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية بإشراف الأكاديمي ساخروف ، موسكو 2000م ، الجزء الأول
5. غالكينا ي .س ، الخاقانية الروسية ، موسكو 2002 م 
6. كوزمينكو . ف .م . تاريخ روسيا ، موسكو 1999 م

لنسخ المادة إلى المدونات يرجى استخدام الرابط

Для блога/форума/сайта:

< Код для вставки

Просмотр


Прямая ссылка на материал:
<a href="http://www.islamrf.ru//aranews/aagenda/arussia-world/5630/">ISLAMRF.RU: الاسلام والمسيحية في التاريخ الروسي  </a>